سؤالي يتعلق بوالدي، وتتلخص القضية بأنه منذ حوالي عشر سنوات كان والدي يمتلك حسابًا كبيرًا في البنك واستمرت الحال اليسيرة لعدة سنوات، وفي ذلك الوقت قدر والدي قيمة زكاة المال لبضع سنوات فاتته أن يدفع فيها الزكاة، وكان المبلغ كبيرًا، وقرّر أن يرسل قيمة الزكاة إلى موطنه الأصلي ليتم الدفع عن طريق صديق يثق به، فاقترح عليه هذا الصديق أن يوظف هذا المال في مشروع بحيث خلال سنوات قليلة يسترجع رأس المال وهو الزكاة الماضية، والأرباح الجديدة يستمر بدفعها زكاة عن أموال أخرى أو صدقة حسب الوضع المالي لأبي، والذي حدث أنه الآن وبعد عشر سنوات اعترف هذا الصديق لأبي بأن المشروع قد فشل ولم يسدد إلا جزءاً من الزكاة والتي تعتبر دينًا على أبي، علمًا بأن أبي منذ ذلك الوقت وزّع أمواله على أبنائه، ولم يَعُد له دخل إلا المعاش الشهري، بالإضافة إلى مبلغ صغير في البنك وهبة لزوجته، ما هو الحل الآن برأيكم؟ مع العلم أن المشروع الذي فشل تبقى منه محل تجاري إذا تم بيعه لن يسدد المبلغ المفروض، بالإضافة إلى بيت مبني كهيكل أيضًا لا يسدد الدين..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...
فإذا كان وقت وجوب الزكاة، فيجب إخراجها إلى مستحقيها، ولا يجوز بأي حال حبس مال الزكاة ولا استثماره إلا في ظروف وضوابط شرعية معينة، ويجوز للأب أن يسترد ما وهب من هبات وعطايا، بحيث يتمكن من سداد دينه، وفكاك رقبته،والأبناء البررة يسعون في سداد ما على أبويهم من ديون، سواء كانت هذه الديون لله تعالى، أو لخلق الله تعالى، بل إن دين الله تعالى أحق بالوفاء.
إليك تفصيل ذلك في فتوى فضيلة الشيخ جعفر الطلحاوي من علماء الأزهر الشريف:
أولاً: الزكاة حق الله تعالى ونصيب عيال الله في أموال وكلاء الله تعالى، كما في الأثر: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي، فإذا بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي".
ثانياً: ما دام قد دخل وقت وجوب إخراج هذه الزكاة، فإن فرض الوقت هو إخراج هذه الزكاة إلى مستحقيها فإنها لا تقع بيد الله بمكان قبل أن تقع بيد الفقير، كما جاء بذلك الأثر؛ ولذا كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعطِّر وتطيب درهم الصدقة، قبل أن يتناوله الفقير، أو المسكين من يدها.
ثالثاً: الجزاء من جنس العمل، بتأخير حق الله تعالى عن وقته ومستحقيه، يكون التأخير والحبس عن دخول الجنة، وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما كان في صلاة، انفتل من صلاته مسرعًا إلى غرفة من غرف أزواجه، قبل أن يختم الصلاة، ثم عاد مسرعًا، فلما رأى ما بالصحابة من العجب من سرعته، قال صلى الله عليه وسلم: "ذكرت شيئًا من تبر، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بإخراجه"، والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام، خشي من حبسه للزكاة عن مستحقيها، وقد دخل وقتها، أن يؤدي ذلك إلى حبسه - وهو من هو- عن دخول الجنة.
رابعًا: بإحراز الزكاة عن سائر الأموال، ارتفعت يد المزكي عن ملكية هذه الأموال (الزكاة)، وأصبحت يده عليها يد أمانة، حتى يؤديها إلى أهلها، وعليه فليس له الحق في استغلاله، أموال الزكاة هذه.
خامساً: في حالة واحدة فقط يجوز لمن أخرج زكاة ماله، أن يقوم هو بنفسه أو أي جهة خير عامة، تتوكل عنه في القيام بتشغيل أموال الزكاة هذه واستثمارها في مشروع يدر ربحًا مشروعًا وفيرًا، فتتحول أموال الزكاة هذه من كونها صدقة عادية مؤقتة النفع، إلى صدقة جارية دائمة النفع على أن يكون كل نفع من رأس مال هذا المشروع (أي الزكاة)، وكل ربح ينتج عن هذا المشروع، يوجه كله إلى مصارف الزكاة الواردة في الآية: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ" (التوبة: 60).
وتكون كما قلنا بهذا الطريق صدقة جارية، كلما استمر نفعها، عاد ثواب ذلك وأجره إلى من أخرجها، وتصرف فيها هذا التصرف، للحديث الشريف: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
سابعاً: ما زالت ذمة الغني الذي أخرج زكاة ماله إلى هذه الصديق، ليتوكل عنه في توزيعها، ثم قام ذلك الصديق بهذا المشروع الآثم، ما زالت ذمة صاحب هذه الأموال، والذي أخرج هذه الزكاة، مشغولة بدين الله هذا، ولا تسقط الديون إلا بالأداء.
ثامناً: ينبغي أن تسعوا في فكاك رقبة الوالد، وإبراء ذمته وإخلاء مسئوليته، وكما رعاكم صغارًا فعليكم أن ترعوه كبارًا.
تاسعاً: في الهدي النبوي ما قد تقرر من أن الأبناء البررة يسعون في سداد ما على أبويهم من ديون، سواء كانت هذه الديون لله تعالى، أو لخلق الله تعالى، بل إن دين الله تعالى أحق بالوفاء للحديث الصحيح: "فدين الله أحق بالوفاء"، فيلزمكم سداد هذا الدين، بعلمكم به ووقوفكم عليه وليس من علم كمن لا يعلم.
عاشراً: يجوز لأبيكم أن يسترد ما وهبكم من هبات وعطايا، وهي الحالة الوحيدة في الشرع التي يجوز فيها الرجوع في الهبة: "رجوع الوالد عن هبته لولده وإلا فلا"، وذلك الرجوع فيما وهبكم بحيث يتمكن من سداد دينه، وفكاك رقبته.
إسم المجيب أو المصدر: موقع إسلام أون لاين